فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {فاستكبروا}.
أي: عن الإِيمان بالله وعبادته {وكانوا قومًا عالين} أي: قاهرين للناس بالبغي والتطاول عليهم.
قوله تعالى: {وقومُهما لنا عابدون} أي: مطيعون.
قال أبو عبيدة: كل من دان لملِك فهو عابدٌ له.
قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب} يعني: التوراة، أُعطيها جملة واحدة بعد غرق فرعون {لعلَّهم} يعني: بني إِسرائيل، والمعنى: لكي يهتدوا.
قوله تعالى: {وجعلنا ابن مريم وأُمَّه آيةً} وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: آيتين على التثنية، وهذا كقوله: {وجعلناها وابنها آية} [الانبياء: 91] وقد سبق شرحه.
قوله تعالى: {وآويناهما} أي: جعلناهما يأويان {إِلى ربوة} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {رُبوة} بضم الراء.
وقرأ عاصم، وابن عامر: بفتحها، وقد شرحنا معنى الربوة في [البقرة: 265]، {ذاتِ قرار} أي: مستوية يستقر عليها ساكنوها، والمعنى: ذات موضع قَرار.
وقال الزجاج: أي: ذات مستقَرّ {ومَعِينٍ} وهو الماء الجاري من العيون.
وقال ابن قتيبة: ذات قرار أي: يُستقَرُّ بها للعمارة، ومَعينٍ هو الماء الظاهر، ويقال: هو مَفْعُول من العين، كأنّ أصله مَعْيُون، كما يقال: ثوب مَخِيط، وبُرٌّ مَكِيل.
واختلف المفسرون في موضع هذه الربوة الموصوفة على أربعة أقوال.
أحدها: أنها دمشق، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عبد الله بن سلام، وسعيد بن المسيب.
والثاني: أنها بيت المقدس، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال قتادة.
وعن الحسن كالقولين.
والثالث: أنها الرملة من أرض فلسطين، قاله أبو هريرة.
والرابع: مصر، قاله وهب بن منبه، وابن زيد، وابن السائب.
فأما السبب الذي لأجله أَوَيَا إِلى الربوة، فقال أبو صالح عن ابن عباس: فرَّت مريم بابنها عيسى من ملكهم، ثم رجعت إِلى أهلها بعد اثنتي عشرة سنة.
قال وهب بن منبه: وكان الملك أراد قتل عيسى. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)}.
{قرونًا} قال ابن عباس: هم بنو إسرائيل.
وقيل: قصة لوط وشعيب وأيوب ويونس صلوات الله عليهم {ما تسبق} إلى آخر الآية تقدم الكلام عليها في الحجر {ثم أرسلنا رسلنا تترى} أي لأمم آخرين أنشأناهم بعد أولئك.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشيبه وابن محيصن والشافعي {تترى} منونًا وباقي السبعة بغير تنوين، وانتصب على الحال أي متواترين واحدًا بعد واحد، وأضاف الرسل إليه تعالى وأضاف رسولًا إلى ضمير الأمة المرسل إليها لأن الإضافة تكون بالملابسة، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه، فالأول كانت الإضافة لتشريف الرسل، والثاني كانت الإضافة إلى الأمة حيث كذبته ولم ينجح فيهم إرساله إليهم فناسب الإضافة إليهم.
{فأتبعنا بعضهم بعضًا} أي بعض القرون أو بعض الأمم بعضًا في الإهلاك الناشىء عن التكذيب.
و{أحاديث} جمع حديث وهو جمع شاذ، وجمع أحدوثة وهو جمع قياسي.
والظاهر أن المراد الثاني أي صاروا يتحدث بهم وبحالهم في الإهلاك على سبيل التعجب والاعتبار وضرب المثل بهم.
وقال الأخفش: لا يقال هذا إلاّ في الشر ولا يقال في الخير.
قيل: ويجوز أن يكون جمع حديث، والمعنى أنه لم يبق منهم عين ولا أثر إلاّ الحديث عنهم.
وقال الزمخشري: الأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع كقطيع وأقاطيع، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير وهو لم يلفظ له بواحد فأحرى {أحاديث} وقد لفظ له وهو حديث، فالصحيح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرناه.
{بآياتنا} قال ابن عباس هي التسع وهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، والسنون، ونقص من الثمرات {وسلطان مبين} قيل: هي العصا واليد، وهما اللتان اقترن بهما التحدي ويدخل في عموم اللفظ سائر آياتهما كالبحر والمرسلات الست، وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون بل هي خاصة ببني إسرائيل.
وقال الحسن: {بآياتنا} أي بديننا.
{وسلطان مبين} هو المعجز، ويجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات، وبسلطان مبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء فقد فارقتها في قوة دلالتها على قول موسى عليه السلام.
قيل: ويجوز أن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها كانت أمّ آيات موسى وأولاها، وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر بالضرب بها، وكونها حارسًا وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلوًا ورشاء، جعلت كأنها ليست بعض الآيات لما استبدت به من الفضل فلذلك عطفت عليها كقوله: {وجبريل وميكال} ويجوز أن يراد بسلطان مبين الآيات أنفسها أي هي آيات وحجة بينة {فاستكبروا} عن الإيمان بموسى وأخيه.
{قومًا عالين} أي رفيعي الحال في الدنيا أي متطاولين على الناس قاهرين بالظلم، أو متكبرين كقوله: {إن فرعون علا في الأرض} أي وكان من شأنهم التكبر.
والبشر يطلق على المفرد والجمع كقوله: {فأما ترينّ من البشر أحدًا} ولما أطلق على الواحد جازت تثنيته فلذلك جاء {لبشرين} ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولا يؤنث، وقد يطابق تثنية وجمعًا و{قومهما} أي بنو إسرائيل {لنا عابدون} أي خاضعون متذللون، أو لأنه كان يدّعي الإلهية فادّعى الناس العبادة، وإن طاعتهم له عبادة على الحقيقة.
وقال أبو عبيد: العرب تسمي كل من دان للملك عابدًا، ولما كان ذلك الإهلاك كالمعلول للتكذيب أعقبه بالفاء أي فكانوا ممن حكم عليهم بالغرق إذ لم يحصل الغرق عقيب التكذيب.
{موسى الكتاب} أي قوم موسى و{الكتاب} التوراة، ولذلك عاد الضمير على ذلك المحذوف في قوله: {لعلهم} ولا يصح عود هذا الضمير في {لعلهم} على فرعون وقومه لأن {الكتاب} لم يؤته موسى إلا بعد هلاك فرعون لقوله: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} {لعلهم} ترج بالنسبة إليهم {لعلهم يهتدون} لشرائعها ومواعظها.
{وجعلنا ابن مريم وأمه} أي قصتهما وهي {آية} عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل، ويحتمل أن يكون حذف من الأول آية لدلالة الثاني أي وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية.
والربوة هنا: قال ابن عباس وابن المسيب: الغوطة بدمشق، وصفتها أنها {ذات قرار ومعين} على الكمال.
وقال أبو هريرة: رملة فلسطين.
وقال قتادة وكعب: بيت المقدس، وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء، وأنه يزيد على أعلى الأرض ثمانية عشر ميلًا.
وقال ابن زيد ووهب: الربوة بأرض مصر، وسبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرها المفسرون.
وقرأ الجمهور {رُبوة} بضم الراء وهي لغة قريش، والحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم وابن عامر بفتحها، وأبو إسحاق السبيعي بكسرها وابن أبي إسحاق رباوة بضم الراء بالألف، وزيد بن على والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف. وقرئ بكسرها وبالألف {ذات قرار} أي مستوية يمكن القرار فيها للحرث والغراسة، والمعنى أنها من البقاع الطيبة. وعن قتادة: ذات ثمار وماء، يعني أنها لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)}.
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} قال: ولدته مريم من غير أب هو له.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس رضي الله عنه في قوله: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} قال: عبرة.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن رضي الله عنه {وآويناهما} قال: عيسى وأمه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه {وآويناهما} قال: عيسى وأمه حين أويا إلى الغوطة وما حولها.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما {وآويناهما إلى ربوة} الآية. قال: {الربوة} المستوى {والمعين} الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله {قد جعل ربك تحتك سَريًا} [مريم: 24].
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما {وآويناهما إلى ربوة} قال: هي المكان المرتفع من الأرض، وهي أحسن ما يكون فيه النبات {ذات قرار} ذات خصب {ومعين} ماء ظاهر.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه {إلى ربوة} قال: مستوية {ذات قرار ومعين} قال: ماء جار.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن عساكر عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في الآية قال: {الربوة} المكان المرتفع وهو لبيت المقدس {والمعين} الماء الظاهر.
وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن جرير وابن عساكر عن قتادة رضي الله عنه {وآويناهما إلى ربوة} قال: كنا نحدث أن الربوة بيت المقدس {ذات قرار} ذات ثمر كثير {ومعين} ماء جار.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عن وهب بن منبه رضي الله عنه {وآويناهما إلى ربوة} قال: هي مصر.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد {وآويناهما إلى ربوة} قال: وليس الربى إلى بمصر.
والماء حين يرسل يكون الربى عليها القرى لولا الربى لغرقت تلك القرى.
وأخرج ابن عساكر عن زيد بن مسلم رضي الله عنه {وآويناهما إلى ربوة} قال: هي الإسكندرية.
وأخرج ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كلمهم طفلًا حتى بلغ ما يبلغ الغلمان الذي أنطقه الله بعد ذلك بالحكمة والبيان، فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه إلى رجل يعلمه كما يعلم الغلمان فلا يعلمه شيئًا إلا بدره عيسى إلى علمه قبل أن يعلمه إياه فعلمه أبا جاد فقال عيسى: ما أبو جاد؟ قال المعلم: لا أدري. فقال عيسى: كيف تعلمني ما لا تدري فقال المعلم: إذن فعلمني. فقال له عيسى: فقم من مجلسك فقَام. فجلس عيسى مجلسه فقال: سلني؟ فقال المعلم: ما أبو جاد؟ فقال عيسى: ألف، آلاء الله باءِ بهاء الله، جيم بهجة الله وجماله، فعجب المعلم فكان أول من فسر أبا جاد عيسى عليه السلام، وكان عيسى يرى العجائب في صباه إلهامًا من الله، ففشا ذلك اليهود وترعرع عيسى فهمت به بنو إسرائيل فخافت أمه عليه، فأوحى الله إليها: أن تنطلق به إلى أرض مصر فذلك قوله: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} فسئل ابن عباس: ألا قال آيتان، وهما آيتان: فقال ابن عباس: إنما قال آية، لأن عيسى من آدم ولم يكن من أب لم يشاركها في عيسى أحد فصار آية واحدة {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} قال: يعني أرض مصر.
وأخرج وكيع والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وتمام الرازي في فضائل النبوّة وابن عساكر بسند صحيح عن ابن عباس في قوله: {إلى ربوة} قال: أنبئنا بأنها دمشق.
وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام في قوله: {وآويناهما إلى ربوة} قال: هي دمشق.
وأخرج ابن عساكر عن يزيد بن سخبرة الصحابي قال: دمشق هي الربوة المباركة.
وأخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} قال: أتدرون أين هي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هي بالشام بأرض يقال لها الغوطة، مدينة يقال لها دمشق هي خير مدن الشام.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن سعيد بن المسيب {وآويناهما إلى ربوة} قال: هي دمشق.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن عساكر عن مرة البهزي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الرملة الربوة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو نعيم وابن عساكر عن أبي هريرة في قوله: {وآويناهما إلى ربوة} قال: هي الرملة في فلسطين، وأخرجه ابن مردويه من حديثه مرفوعًا.
وأخرج الطبراني وابن السكن وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر من طرق عن الأقرع بن شفي العكي رضي الله عنه قال «دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في مرض يعودني فقلت: لا أحسب إلا أني ميت من مرضي. قال: كلا لتبقين، ولتهاجرن منها إلى أرض الشام وتموت وتدفن بالربوة من أرض فلسطين. فمات في خلافة عمر رضي الله عنه ودفن في بالرملة».
وأخرج ابن عساكر عن قتادة عن الحسن في قوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} قال: هي أرض ذات أشجار وأنهار يعني أرض دمشق. وفي لفظ قال: ذات ثمار وكثرة ماء هي دمشق. اهـ.